فصل: سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة:

.ذكر ظفر ناصر الدولة بعدل البجكمي:

في هذه السنة ظفر أبو عبدالله الحسين بن سعيد بن حمدان بعدل حاجب بجكم، وسلمه، وسيره إلى بغداد.
وسبب ذلك أن عدلاً صار بعد قتل بجكم مع ابن رائق، وسار معه إلى بغداد، وأصعد معه إلى الموصل، فلما قتل ناصر الدولة أبا بكر بن رائق، كما ذكرناه، صار عدل في جملة ناصر الدولة، فسيره ناصر الدولة مع علي ابن خلف بن طياب إلى ديار مضر، والشام الذي كان بيد ابن رائق، وكان بالرحبة من جهة ابن رائق رجل يقال له مسافر بن الحسن، فلما قتل ابن رائق استولى مسافر هذا على الناحية، ومنع منها، وجبى خراجها، فأرسل إليه ابن طياب عدلاً في جيش ليخرجه عن الرحبة، فلما سار إليها فارقها مسافر من غير قتال، وملك عدل الحاجب البلد، وكاتب من بغداد من البجكمية، فقصدوه مستخفين، فقوي أمره بهم، واستولى على طريق الفرات، وبعض الخابور.
ثم إن مسافراً جمع جمعاً من بني نمير وسار إلى قرقيسيا، فأخرج منها أصحاب عدل وملكها، فسار إليها، واستتر عنها، وعزم عدل على قصد الخابور وملكه، فاحتاط أهله منه، واستنصروا ببني نمير، فلما علم ذلك عدل ترك قصدهم.
ثم صار يركب كل يوم قبل العصر بساعة في جميع عسكره ويطوف صحاري قرقيسيا إلى آخر النهار، وعيونه تأتيه من أهل الخابور بأنهم يحذرون كلما سمعوا بحركته، ففعل ذلك أربعين يوماً، فلما رأى أهل الخابور اتصل ركوبه، وأنه لا يقصدهم، فرقوا جمعهم وأمنوه، فأتته عيونه بذلك على رسمه، فلما تكامل رجاله أمرهم بالمسير، وأن يرسلوا غلمانهم في حمل أثقالهم، وسار لوقته فصبح الشمسانية، وهي من أعظم قرى الخابور وأحصنها، فتحصن أهلها منه، فقاتلهم ونقب السور وملكها وقتل فيها، وأخذ من أهلها مالاً كثيراً، وأقام بها أياماً، ثم سار إلى غيرها، فبقي في الخابور ستة أشهر، فجبى الخراج والأموال العظيمة، واستظهر بها، وقوي أصحابه بما وصل إليهم أيضاً، وعاد إلى الرحبة، واتسعت حاله، واشتد أمره، وقصده العساكر من بغداد، فعظم حاله.
ثم إنه سار يريد نصيبين لعلمه ببعد ناصر الدولة عن الموصل والبلاد الجزيرية، ولم يمكنه قصد الرقة وحران لأنها كان بها يأنس المؤنسي في عسكر ومعه جمع من بني نمير، فتركها وسار إلى رأس عين، ومنها إلى نصيبين، فاتصل خبره بالحسين بن حمدان، فجمع الجيش وسار إليه إلى نصيبين، فلما قرب منه لقيه عدل في جيشه، فلما التقى العسكران استأمن أصحابه من عدل إلى ابن حمدان، وبقي معه منهم نفر يسير من خاصته، فأسره ابن حمدان، وأسر معه ابنه، فسمل عدلاً وسيرهما إلى بغداد، فوصلها في العشرين من شعبان، فشهر هو وابنه فيها.

.ذكر حال سيف الدولة بواسط:

قد ذكرنا مقام سيف الدولة علي بن حمدان بواسط، بعد انحدار البريديين عنها، وكان يريد الانحدار إلى البصرة لأخذها من البريدي، ولا يمكنه لقلة المال عنده، ويكتب إلى أخيه في ذلك، فلا ينفذ إليه شيئاً، وكان توزون وخجخج يسيئان الأدب ويتحكمان عليه.
ثم إن ناصر الدولة أنفذ إلى أخيه مالاً مع أبي عبدالله الكوفي ليفرقه في الأتراك، فأسمعه توزون وخجخج المكروه، وثارا به، فأخذه سيف الدولة وغيبه عنهما وسيره إلى بغداد، وأمر توزون أن يسير إلى الجامدة ويأخذها وينفرد بحاصلها، وأمر خجخج أن يسير إلى مذار ويحفظها ويأخذ حاصلها.
وكان سيف الدولة يزهد بالأتراك في العراق، ويحسن لهم قصد الشام معه الاستيلاء عليه وعلى مصر، ويقع في أخيه عندهم، فكانوا يصدقونه في أخيه، ولا يجيبونه إلى المسير إلى الشام معه، ويتسحبون عليه، وهو يجيبهم إلى الذي يريدونه.
فلما كان سلخ شعبان ثار الأتراك بسيف الدولة فكبسوه ليلاً، فهرب من معسكره إلى بغداد، ونهب سواده، وقتل جماعة من أصحابه.
وأما ناصر الدولة فإنه لما وصل إليه أبو عبدالله الكوفي وأخبره الخبر برز ليسير إلى الموصل، فركب المتقي إليه، وسأله التوقف عن المسير، فأظهر له الإجابة إلى أن عاد، ثم سار إلى الموصل ونهبت داره، وثار الديلم والأتراك، ودبر الأمر أبو إسحاق القراريطي من غير تسمية بوزارة.
وكانت إمارة ناصر الدولة أبي محمد الحسين بن عبدالله بن حمدان ببغداد ثلاثة عشر شهراً وخمسة أيام، ووزارة أبي العباس الأصبهاني أحداً وخمسين يوماً؛ ووصل سيف الدولة إلى بغداد.

.ذكر حال الأتراك بعد إصعاد سيف الدولة:

لما هرب سيف الدولة من واسط عاد الأتراك إلى معسكرهم، فوقع الخلاف بين توزون وخجخج، وتنازعا الإمارة، ثم استقر الحال على أن يكون توزون أميراً وخجخج صاحب الجيش، وتصاهرا.
وطمع البريدي في واسط، فأصعد إليها، فأمر توزون خجخج بالمسير إلى نهر أبان، وأرسل البريدي إلى توزون يطلب أن يضمنه واسط، فرد رداً جميلاً، ولم يفعل. ولما عاد الرسول أتبع توزون بجاسوس يأتيه بخبره مع خجخج، فعاد الجاسوس فأخبر توزون بأن الرسول اجتمع هو وخجخج وطال الحديث بينهما، وأن خجخج يريد أن ينتقل إلى البريدي، فسار توزون إليه جريدة في مائتي غلام يثق بهم، وكبسه في فراشه ليلة الثاني عشر من رمضان، فلما أحس به ركب دابته بقميص، وفي يده لت، ودفع عن نفسه قليلاً، ثم أخذ وحمل إلى توزون فحمله إلى واسط، فسلمه وأعماه ثاني يوم وصوله إليها.

.ذكر عود سيف الدولة إلى بغداد وهربه عنها:

لما هرب سيف الدولة، على ما ذكرنا، لحق بأخيه، فبلغه خلاف توزون وخجخج، فطمع في بغداد، فعاد ونزل بباب حرب، وأرسل إلى المتقي لله يطلب منه مالاً ليقاتل توزون إن قصد بغداد، فأنفذ إليه أربع مائة ألف درهم، ففرقها في أصحابه، وظهر من كان مستخفياً ببغداد وخرجوا إليه، وكان وصوله ثالث عشر رمضان.
ولما بلغ توزون وصول سيف الدولة إلى بغداد خلف بواسط كيغلغ في ثلاثمائة رجل وأصعد إلى بغداد، فلما سمع سيف الدولة بإصعاده رحل من باب حرب فيمن انضم إليه من أجناد بغداد، وفيهم الحسن بن هارون.

.ذكر إمارة توزون:

قد ذكرنا مسير سيف الدولة من بغداد، فلما فارقها دخلها توزون، وكان دخلوها بغداد في الخامس والعشرين من رمضان، فخلع عليه المتقي لله، وجعله أمير الأمراء، وصار أبو جعفر الكرخي ينظر في الأمور كما كان الكوفي ينظر فيها.
ولما سار توزون عن واسط أصعد إليها البريدي، فهرب من بها من أصحاب توزون إلى بغداد، ولم يمكن توزون المبادرة إلى واسط إلى أن تستقر الأمور ببغداد، فأقام إلى أن مضى بعض ذي القعدة.
وكان توزون قد أسر غلاماً عزيزاً على سيف الدولة قريباً منه، يقال له ثمال، فأطلقه وأكرمه وأنفذه إليه، فحسن موقع ذلك من بني حمدان، ثم إن توزون انحدر إلى واسط لقصد البريدي، فأتاه أبو جعفر بن شيرزاد هارباً من البريدي، فقبله، وفرح به، وقلد أموره كلها.

.ذكر مسير صاحب عمان إلى البصرة:

في هذه السنة، في ذي الحجة، سار يوسف بن وجيه صاحب عمان في مراكب كثيرة يريد البصرة، وحارب البريدي، فملك الأبلة، وقوي قوة عظيمة، وقار أن يملك البصرة، فأشرف البريدي وإخوته على الهلاك.
وكان له ملاح يعرف بالرنادي، فضمن للبريدي هزيمة يوسف، فوعد الإحسان العظيم، وأخذ الملاح زورقين فملأهما سعفاً يابساً، ولم يعلم به أحد، وأحدرهما في الليل حتى قارب الأبلة.
وكانت مراكب ابن وجيه تشد بعضها إلى بعض في الليل، فتصير كالجسر، فلما انتصف الليل أشعل ذلك الملاح النار في السعف الذي في الزورقين، وأرسلهما مع الجزر والنار فيهما، فأقبلا أسرع من الريح، فوقعا في تلك السفن والمراكب، فاشتعلت واحترقت قلوبها، واحترق من فيها، ونهب الناس منها مالاً عظيماً، ومضى يوسف بن وجيه هارباً في المحرم سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة، وأحسن البريدي إلى ذلك الملاح، وفي هذه الفتنة هرب ابن شيرزاد من البريدي وأصعد إلى توزون.

.ذكر الوحشة بين المتقي لله وتوزون:

كان محمد بن ينال الترجمان من أكبر قواد توزون، وهو خليفته ببغداد، فلما انحدر توزون إلى واسط سعى بمحمد إليه، وقبح ذكره عنده، فبلغ ذلك محمداً فنفر منه.
وكان الوزير أبو الحسين بن مقلة قد ضمن القرى المختصة بتوزون ببغداد، فخسر فيها جملة، فخاف أن يطالب بها، وانضاف إلى ذلك اتصال ابن شيرزاد بتوزون، فخافه الوزير وغيره، وظنوا أن مصيره إلى توزون باتفاق من البريدي، فاتفق الترجمان وابن مقلة، وكتبوا إلى ابن حمدان لينفذ عسكراً يسيراً صحبة المتقي لله إليه، وقالوا للمتقي: قد رأيت ما فعل معك البريدي! بالأمس أخذ منك خمسمائة ألف دينار، وأخرجت على الأجناد مثلها، وقد ضمنك البريدي من توزون بخمسمائة ألف دينار أخرى، زعم أنها في يدك من تركة بجكم، وابن شيرزاد واصل ليتسلمك ويخلعك ويسلمك إلى البريدي؛ فانزعج لذلك، وعزم على الإصعاد إلى ابن حمدان، وورد ابن شيرزاد في ثلاثمائة رجل جريدة.

.ذكر موت السعيد نصر بن أحمد بن إسماعيل:

في هذه السنة توفي السعيد نصر بن أحمد بن إسماعيل، صاحب خراسان وما وراء النهر، في رجب، وكان مرضه السل، فبقي مريضاً ثلاثة عشر شهراً، ولم يكن بقي من مشايخ دولتهم أحد، فإنهم كانوا قد سعى بعضهم ببعض، فهلك بعضهم، ومات بعضهم، وكانت ولايته ثلاثين سنة وثلاثين يوماً، وكان عمره ثمانياً وثلاثين سنة.
وكان حليماً، كريماً، عاقلاً، فمن حلمه أن بعض الخدم سرق جوهراً نفيساً وباعه من بعض التجار بثلاثة عشر ألف درهم، فحضر التاجر عند السعيد وأعلمه أنه قد اشترى جوهراً نفيساً لا يصلح إلا للسلطان، وأحضر الجوهر عنده، فحين رآه عرفه أنه كان له وقد سرق، فسأله عن ثمنه، ومن أين اشتراه، فذكر له الخادم والثمن، فأمر فأحضر ثمنه في الحال، وأربحه ألفي درهم زيادة.
ثم إن التاجر سأله في دم الخادم، فقال: لا بد من تأديبه، وأما دمه فهو لك؛ فأحضره وأدبه، ثم أنفذه إلى التاجر وقال: كنا وهبنا لك دمه، فقد أنفذناه إليك؛ فلو أن صاحب الجوهر بعض الرعايا لقال: هذا مالي قد عاد إلي وخذ أنت مالك ممن سلمته إليه.
وحكي أنه استعرض جنده، وفيهم إنسان اسمه نصر بن أحمد، فلما بلغه العرض سأله عن اسمه فسكت، فأعاد السؤال فلم يجبه، فقال بعض من حضر: اسمه نصر بن أحمد، وإنما سكت إجلالاً للأمير؛ فقال السعيد: إذاً يوجب حقه، ونزير في رزقه؛ ثم قربه وزاد في أرزاقه.
وحكي عنه أنه لما خرج عليه أخوه أبو زكرياء نهب خزائنه وأمواله، فلما عاد السعيد إلى ملكه قيل له عن جماعة انتهبوا ماله، فلم يعرض إليهم، وأخبروه أن بعض السوقة اشترى منها سكيناً نفيساً بمائتي درهم، فأرسل إليه وأعطاه مائتي درهم وطلب السكين، فأبى أن يبيعه إلا بألف درهم، فقال: ألا تعجبون من هذا؟ أرى عنده مالي، فلم أعاقبه، وأعطيته حقه، فاشتط في الطلب؛ ثم أمر برضائه.
وحكي أنه طال مرضه فبقي به ثلاثة عشر شهراً، فأقبل على الصلاة والعبادة، وبنى له في قصره بيتاً وسماه بيت العبادة، فكان يلبس ثياباً نظافاً، ويمشي إليه حافياً، ويصلي فيه، ويدعو ويتضرع، ويجتنب المنكرات والآثام إلى أن مات ودفن عند والده.

.ذكر ولاية ابنه الأمير نوح بن نصر:

لما مات نصر بن أحمد تولى بعده خراسان وما وراء النهر ابنه نوح، واستقر في شعبان من هذه السنة، وبايعه الناس، وحلفوا له، ولقب بالأمير الحميد، وفوض أمره وتدبير مملكته إلى أبي الفضل محمد بن أحمد الحاكم، وصدر عنه رأيه.
ولما ولي نوح هرب منه أبو الفضل بن أحمد بن حمويه، وهو من أكابر أصحاب أبيه، وكان سبب ذلك أن السعيد نصراً كان قد ولى ابنه إسماعيل بخارى، وكان أبو الفضل يتولى أمره وخلافته، فأساء السيرة مع نوح وأصحابه، فحقد ذلك عليه، ثم توفي إسماعيل في حياة أبيه.
وكان نصر يميل إلى أبي الفضل ويؤثره، فقال له: إذا حدث علي حادث الموت فانج بنفسك، فإني لا آمن نوحاً عليك؛ فلما مات الأمير نصر سار أبو الفضل من بخارى وعبر جيحون، وورد آمل، وكاتب أبا علي بن محتاج، وهو بنيسابور، يعرفه الحال، وكان بينهما مصاهرة، فكتب إليه أبو علي ينهاه عن الإلمام بناحيته لمصلحة.
ثم إن الأمير نوحاً أرسل إلى أبي الفضل كتاب أمان بخطه، فعاد إليه فأحسن الفعل معه، وولاه سمرقند، وكان أبو الفضل معرضاً عن محمد بن أحمد الحاكم، ولا يلتفت إليه، ويسميه الخياط، فأضمر الحاكم بغضه والإعراض عنه.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة، في المحرم، وصل معز الدولة بن بويه إلى الصرة، فحارب البريديين، وأقام عليهم مدة، ثم استأمن جماعة من قواده إلى البريديين، فاستوحش من الباقين، فانصرف عنهم.
وفيها تزوج الأمير أبو منصور بن المتقي بابنة ناصر الدولة بن حمدان، وكان الصداق ألف ألف درهم، والحمل مائة ألف دينار.
وفيها قبض ناصر الدولة على الوزير أبي إسحاق القراريطي، ورتب مكانه أبا العباس أحمد بن عبدالله الأصبهاني في رجب، وكان أبو عبدالله الكوفي هو الذي يدبر الأمور، وكانت وزارة القراريطي ثمانية أشهر وستة عشر يوماً، وكان ناصر الدولة ينظر في قصص الناس وتقام الحدود بين يديه، ويفعل ما يفعل صاحب الشرطة.
وفيها كانت الزلزلة المشهورة بناحية نسا من خراسان، فخربت قرى كثيرة، ومات تحت الهدم عالم عظيم، وكانت عظيمة جداً.
وفيها استقدم الأمير نوح محمد بن أحمد النسفي البردهي، وكان قد طعن فيه عنده، فقتله وصلبه، فسرق من الجذع، ولم يعلم من سرقه.
وفيها استوزر المتقي لله أبا الحسين بن مقلة، ثامن شهر رمضان، بعد إصعاد ناصر الدولة من بغداد إلى الموصل، وقبل إصعاد أخيه سيف الدولة من واسط إلى بغداد.
وفيها أرسل ملك الروم إلى المتقي لله يطلب منديلاً زعم أن المسيح مسح به وجهه، فصارت صورة وجهه فيه، وأنه في بيعة الرها. وذكر أنه إن أرسل المنديل أطلق عدداً كثيراً من أسارى المسلمين، فأحضر المتقي لله القضاة والفقهاء، واستفتاهم، فاختلفوا، فبعض رأى تسليمه إلى الملك وإطلاق الأسرى، وبعض قال إن هذا المنديل لم يزل من قديم الدهر في بلاد الإسلام لم يطلبه ملك من ملوك الروم، وفي دفعه إليهم غضاضة.
وكان في الجماعة علي بن عيسى الوزير، فقال: إن خلاص المسلمين من الأسر ومن الضر والضنك الذي هم فيه أولى من حفظ هذا المنديل؛ فأمر الخليفة بتسليمه إليهم، وإطلاق الأسرى، ففعل ذلك، وأرسل إلى الملك من يتسلم الأسرى من بلاد الروم فأطلقوا.
وفيها توفي أبو بكر محمد بن إسماعيل الفرغاني الصوفي أستاذ أبي بكر الدقاق، وهو مشهور بين المشايخ.
وفيها توفي محمد بن يزداد الشهرزوري، وكان يلي إمرة دمشق لمحمد بن رائق، ثم اتصل بالإخشيد فجعله على شرطته بمصر.
وفيها توفي سنان بن ثابت بن قرة، مستهل ذي القعدة، بعلة الذرب، وكان حاذقاً في الطب، فلم يغن عنه عند دنو الأجل شيئاً.
وفيها أيضاً مات أبو عبدالله محمد بن عبدوس الجهشياري. ثم دخلت:

.سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة:

.ذكر مسير المتقي إلى الموصل:

في هذه السنة أصعد المتقي لله إلى الموصل.
وسبب ذلك ما ذكرناه أولاً من سعاية ابن مقلة والترجمان مع المتقي بتوزون وابن شيرزاد، ثم إن ابن شيرزاد وصل خامس المحرم إلى بغداد في ثلاث مائة غلام جريدةً، فازداد خوف المتقي، وأقام ببغداد يأمر وينهى، ولا يراجع المتقي في شيء.
وكان المتقي قد أنفذ يطلب من ناصر الدولة بن حمدان إنفاذ جيش إليه ليصحبوه إلى الموصل، فأنفذهم مع ابن عمه أبي عبدالله الحسين بن سعيد بن حمدان، فلما وصلوا إلى بغداد نزلوا بباب حرب، واستتر ابن شيرزاد، وخرج المتقي إليهم في حرمه، وأهله، ووزيره، وأعيان بغداد، مثل سلامة الطولوني، وأبي زكرياء يحيى بن سعيد السوسي، وأبي محمد المارداني، وأبي إسحاق القراريطي، وأبي عبدالله الموسوي، وثابت بن سنان بن ثابت بن قرة الطبيب، وأبي نصر محمد بن ينال الترجمان، وغيرهم.
ولما سار المتقي من بغداد ظلم ابن شيرزاد الناس وعسفهم وصادرهم وأرسل إلى توزون، وهو بواسط، يخبره بذلك، فلما بلغ توزون الخبر عقد ضمان واسط على البريدي وزوجه ابنته، وسار إلى بغداد، وانحدر سيف الدولة وحده إلى المتقي لله بتكريت، فأرسل المتقي إلى ناصر الدولة يستدعيه ويقول له: لم يكن الشرط معك إلا أن تنحدر إلينا؛ فانحدر، فوصل إلى تكريت في الحادي والعشرين من ربيع الآخر، وركب المتقي إليه، فلقيه بنفسه، وأكرمه.
وأصعد الخليفة إلى الموصل، وأقام ناصر الدولة بتكريت، وسار توزون نحو تكريت، فالتقى هو وسيف الدولة بن حمدان تحت تكريت بفرسخين، فاقتتلوا ثلاثة أيام، ثم انهزم سيف الدولة يوم الأربعاء لثلاث بقين من ربيع الآخر، وغنم توزون والأعراب سواده وسواد أخيه ناصر الدولة، وعادا من تكريت إلى الموصل ومعهما المتقي لله.
وشغب أصحاب توزون فعاد إلى بغداد، وعاد سيف الدولة وانحدر فالتقى هو وتوزون بحربي، في شعبان، فانهزم سيف الدولة مرة ثانية، وتبعه توزون.
ولما بلغ سيف الدولة إلى الموصل سار عنها هو وأخوه ناصر الدولة والمتقي لله ومن معهم إلى نصيبين، ودخل توزون الموصل، فسار المتقي إلى الرقة، ولحقه سيف الدولة، وأرسل المتقي إلى توزون يذكر أنه استوحش منه لاتصاله بالبريدي، وأنهما صارا يداً واحدة، فإن آثر رضاه يصالح سيف الدولة وناصر الدولة ليعود إلى بغداد، وتردد أبو عبدالله محمد بن أبي موسى الهاشمي من الموصل إلى توزون في ذلك فتم الصلح، وعقد الضمان على ناصر الدولة لما بيده من البلاد ثلاث سنين، كل سنة بثلاثة آلاف ألف وستمائة ألف درهم، وعاد توزون إلى بغداد، وأقام المتقي عند بني حمدان بالموصل، ثم ساروا عنها إلى الرقة فأقاموا بها.

.ذكر وصول معز الدولة إلى واسط وديالي وعوده:

وفي هذه السنة بلغ معز الدولة أبا الحسين بن بويه إصعاد توزون إلى الموصل، فسار هو إلى واسط لميعاد من البريديين، وكانوا قد وعدوه أن يمدوه بعسكر في الماء، فأخلفوه.
وعاد توزون من الموصل إلى بغداد، وانحدر منها إلى لقاء معز الدولة، والتقوا سابق عشر ذي القعدة بقباب حميد، وطالت الحرب بينهما بضعة عشر يوماً، إلا أن أصحاب توزون يتأخرون، والديلم يتقدمون، إلى أن عبر توزون نهر ديالي، ووقف عليه، ومنع الديلم من العبور.
وكان مع توزون مقابلة في الماء في دجلة، فكانوا يودون أن الديلم يستولون على أطرافهم، فرأى ابن بويه أن يصعد على ديالي ليبعد عن دجلة وقتال من بها، ويتمكن من الماء، فعلم توزون بذلك، فسير بعض أصحابه، وعبروا ديالي وكمنوا، فلما سار معز الدولة مصعداً وسار سواده في أثره خرج الكمين عليه، فحالوا بينهما، ووقعوا في العسكر وهو على غير تعبية.
وسمع توزون الصياح، فتعجل، وعبر أكثر أصحابه سباحة، فوقعوا في عسكر ابن بويه يقتلون ويأسرون حتى ملوا، وانهزم ابن بويه ووزيره الصيمري إلى السوس رابع ذي الحجة ولحق به من سلم من عسكره، وكان قد أسر منهم أربعة عشر قائداً منهم ابن الداعي العلوي، واستأمن كثير من الديلم إلى توزون؛ ثم إن توزون عاوده ما كان يأخذه من الصرع، فشغل بنفسه عن معز الدولة وعاد إلى بغداد.

.ذكر قتل أبي يوسف البريدي:

في هذه السنة قتل أبو عبدالله البريدي أخاه أبا يوسف.
نوكان سبب قتله أن أبا عبدالله البريدي كان قد نفذ ما عنده من المال في محاربة بني حمدان ومقامهم بواسط، وفي محاربة توزون، فلما رأى جنده قلة ماله مالوا إلى أخيه أبي يوسف لكثرة ماله، فاستقرض أبو عبدالله من أخيه أبي يوسف مرة بعد مرة، وكان يعطيه القليل من المال، ويعيبه ويذكر تضييعه وسوء تدبيره، وجنونه وتهوره، فصح ذلك عند أبي عبدالله، ثم صح عنده أنه يريد القبض عليه أيضاً، والاستبداد بالأمر وحده، فاستوحش كل واحد منهما من صاحبه.
ثم إن أبا عبدالله أنفذ إلى أخيه جوهراً نفيساً كان بجكم قد وهبه لبنته لما تزوجها البريدي، وكان قد أخذه من دار الخلافة، فأخذه أبو عبدالله منها حين تزوجها، فلما جاءه الرسول وأبلغه ذلك وعرض عليه الجوهر أحضر الجوهريين ليثمنوه، فلما أخذوا في وصفه أنكر عليهم ذلك، وحرد، ونزل في ثمنه إلى خمسين ألف درهم، وأخذ في الوقيعة في أخيه أبي عبدالله وذكر معايبه وما وصل إليه من المال، وأنفذ مع الرسول خمسين ألف درهم، فلما عاد الرسول إلى أبي عبدالله أبلغه ذلك، فدمعت عيناه: ألا قلت له: جنوني وقلة تحصيلي أقعدك هذا المقعد وصيرك كقارون! ثم عدد ما عمله معه من الإحسان.
فلما كان بعد أيام أقام غلمانه في طريق مسقف بين داره والشط، وأقبل أخوه أبو يوسف من الشط، فدخل في ذلك الطريق، فثاروا به فقتلوه وهو يصيح: يا أخي، يا أخي، قتلوني! وأخوه يسمعه ويقول: إلى لعنة الله! فخرج أخوهما أبو الحسين من داره، وكان بجنب داره أخيه أبي عبدالله، وهو يستغيث: يا أخي قتلته! فسبه وهدده، فسكت، فلما قتل دفنه وبلغ ذلك الخبر الجند، فثاروا وشغبوا ظناً منهم أنه حي، فأمر به فنبش وألقاه على الطريق، فلما رأوه سكتوا، فأمر به فدفن، وانتقل أبو عبدالله إلى دار أخيه أبي يوسف، فأخذ ما فيها، والجوهر في جملته، ولم يحصل من مال أخيه على طائل، فإن أكثره انكسر على الناس، وذهبت نفس أخيه.

.ذكر وفاة أبي عبد الله البريدي:

وفيها، في شوال، مات أبو عبدالله البريدي بعد أ، قتل أخاه بثمانية أشهر بحمى حادة، واستقر في الأمر بعده أخوه أبو الحسين، فأساء السيرة إلى الأجناد، فثاروا به ليقتلوه ويجعلوا أبا القاسم ابن أخيه أبي عبدالله مكانه، فهرب منهم إلى هجر، واستجار بالقرامطة فأعانوه، وسار معه إخوان لأبي طاهر القرمطي في جيش إلى البصرة فرأوا أبا القاسم قد حفظها، فردهم عنها، فحصروه مدة ثم ضجروا وأصلحوا بينه وبين عمه وعادوا، وخل أبو الحسين البصرة، فتجهز منها، وسار إلى بغداد فدخل علت توزون.
ثم طمع يأنس مولى أبي عبدالله البريدي في التقدم، فواطأ قائداً من قواد الديلم على أن تكون الرئاسة بينهما، ويزيلا أبا القاسم مولاه، فاجتمعت الديلم عند ذلك القائد، فأرسل أبو القاسم إليهم يأنس، وهو لا يشعر بالأمر، فلما أتاهم يأنس أشار عليهم بالتوقف، فطمع فيه ذلك القائد الديلمي، وأحب التفرد بالرئاسة، فأمر به فضرب بزوبين في ظهره فجرح، وهرب يأنس واختفى.
ثم إن الديلم اختلفت كلمتهم، فتفرقوا، واختفى ذلك القائد، فأخذ ونفي، وأمر أبو القاسم البريدي بمعالجة يأنس، وقد ظهر له حاله، فعولج حتى برأ، ثم قبض عليه أبو القاسم بعد نيف وأربعين يوماً، وصادره على مائة ألف دينار، وقتله، واستقام أمر أبي القاسم إلى أن أتاه أمر الله على ما نذكره.